فصل: مقدمة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب **


 مقدمة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وَبِهِ ثِقَتِي وَعَلَيْهِ تَوَكُّلِي الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ * وَخَلَقَ لَهُ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْقُوَى وَالْجَوَارِحَ وَالْبَنَان * وَشَرَّفَهُ بِمَعْرِفَتِهِ * وَأَهَّلَهُ لِخِدْمَتِهِ * وَفَضَّلَهُ عَلَى سَائِرِ الْحَيَوَانِ، وَاخْتَصَّهُ بِالنَّهْيِ وَالْأَمْرِ * وَالْوِزْرِ وَالْأَجْرِ * وَالطَّاعَةِ وَالْعِصْيَانِ * وَمَنَحَهُ الْحِلْمَ وَالْحَزْمَ، وَالْفِكْرَ وَالْفَهْمَ، وَالذِّكْرَ وَالْعِلْمَ، وَالتَّحَقُّقَ وَالْعِرْفَانَ، وَنَحَلَهُ الرِّضَى وَالْغَضَبَ، وَالتَّوَدُّدَ وَالْأَدَبَ، وَالتَّلَطُّفَ وَالْأَرَبَ، وَالرِّقَّةَ وَالْجَشْبَ، وَالرَّاحَةَ وَاللَّغْبَ، وَالتَّذَكُّرَ وَالنِّسْيَانَ ‏.‏

سُبْحَانَهُ مِنْ إلَهٍ خَلَقَ فَسَوَّى، وَقَدَّرَ فَهَدَى، وَأَمَاتَ وَأَحْيَا، وَأَعْطَى وَمَنَعَ، وَخَفَضَ وَرَفَعَ، وَأَتَمَّ الدِّينَ، وَأَعْلَنَ الْبُرْهَانَ ‏.‏

حَدَّ الْحُدُودَ، وَعَمَّ بِالْفَضْلِ الْوُجُودَ، وَبَيَّنَ الْأَحْكَامَ مِنْ مُبَاحٍ وَحَلَالٍ وَحَرَامٍ، وَمَكْرُوهٍ وَمَنْدُوبٍ، فَانْدَرَجَ فِيهَا الْأَدَبُ الْمَطْلُوبُ، فَفَضَّلَ هَذَا الدِّينَ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ ‏.‏

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا ضِدَّ وَلَا نِدَّ، وَلَا وَزِيرَ وَلَا مُشِيرَ وَلَا أَعْوَانَ، بَلْ هُوَ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ، الْفَرْدُ الصَّمَدُ، الْمُنَزَّهُ عَنْ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ، فَهُوَ الْقَادِرُ الْمُقْتَدِرُ الْحَكِيمُ الدَّيَّانُ ‏.‏

وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَحَبِيبُهُ وَخَلِيلُهُ، وَأَمِينُهُ عَلَى وَحْيِهِ، وَشَهِيدُهُ عَلَى أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، خُلَاصَةُ الْأَكْوَانِ، وَسَيِّدُ وَلَدِ عَدْنَانَ، الَّذِي أَكْمَلَ خَلْقَهُ، وَعَظَّمَ خُلُقَهُ، وَوَضَعَ عَنْهُ وِزْرَهُ، وَرَفَعَ لَهُ ذِكْرَهُ، وَأَدَّبَهُ فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهُ، فَكَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ، وَأَيَّدَهُ بِالْوَحْيِ وَالتَّنْزِيلِ، وَالْفَضْلِ وَالتَّفْضِيلِ، وَالْبَيَانِ وَالتَّفْصِيلِ، وَالْحِكْمَةِ وَالتَّأْوِيلِ، وَالْحُسْنِ وَالْإِحْسَانِ ‏.‏

اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَشَرِّفْ وَعَظِّمْ وَبَجِّلْ وَكَرِّمْ، وَضَاعِفْ ذَلِكَ عَلَى هَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ، الْمَنْعُوتِ فِي الْكِتَابِ الْقَدِيمِ، بِأَعْظَمِ نَعْتٍ وَأَتَمِّ تَفْخِيمٍ، بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ‏}‏ فَيَالَهَا مِنْ مَزِيَّةٍ سَادَ بِهَا عَلَى الْمَلَائِكَةِ وَالْإِنْسِ وَالْجَانِّ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَأَنْصَارِهِ وَأَحْزَابِهِ، وَأَصْهَارِهِ وَأَحْبَابِهِ، الْمُتَخَلِّقِينَ بِخُلُقِهِ، والمتأدبين بِآدَابِهِ فِي السِّرِّ وَالْإِعْلَانِ ‏.‏

الَّذِينَ بَذَلُوا نُفُوسَهُمْ النَّفِيسَةَ فِي إظْهَارِ دِينِهِ الْقَوِيمِ، وَجَاهَدُوا بِسُمْرِ الْقَنَا وَبِيضِ الظِّبَا مَنْ حَادَ عَنْ صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ، وَنَشَرُوا السُّنَّةَ وَالْكِتَابَ، وَأَظْهَرُوا الْفُرُوضَ وَالْآدَابَ، بِأَسْلَمِ قَلْبٍ وَأَفْصَحِ لِسَانٍ، وَعَلَى التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ، وَالْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ وَمُقَلِّدِيهِمْ، مَا نُقِلَتْ أَخْبَارُهُمْ، وَدُوِّنَتْ آثَارُهُمْ، وَكَرَّ الْجَدِيدَانِ، وَتَعَاقَبَ الْمَلَوَانِ ‏.‏

‏(‏أَمَّا بَعْدُ‏)‏ فَقَدْ كَانَ سَأَلَنِي بَعْضُ الْإِخْوَانِ، وَالْأَحِبَّةِ وَالْأَخْدَانِ، مِمَّنْ لَهُ فِي الْعِلْمِ رَغْبَةٌ، وَلَدَيْهِ مِنْ خَوْفِ التَّقْصِيرِ رَهْبَةٌ، أَنْ أَشْرَحَ مَنْظُومَةَ الْآدَابِ، نَظْمَ الْإِمَامِ الْعَلَّامَةِ الْأَوْحَدِ، وَالْقُدْوَةِ الْفَهَّامَةِ الْأَمْجَدِ، سِيبَوَيْهِ زَمَانِهِ، بَلْ قَسُّ عَصْرِهِ وَسَحْبَانُ أَوَانِهِ، وَمُخْجِلُ الدُّرِّ بِنَظْمِهِ وَالضُّحَى بِبَيَانِهِ، وَالْبَحْرِ بِفَيْضِ عِلْمِهِ وَالْمُزْنِ بِسَيْلِ بَنَانِهِ، الْإِمَامُ الْقُدْوَةُ شَمْسُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْقَوِيِّ الْمَرْدَاوِيُّ، الْفَقِيهُ الْمُحَدِّثُ النَّحْوِيُّ، الْحَنْبَلِيُّ الْأَثَرِيُّ، رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ، شَرْحًا يَحُلُّ مَبَانِيهَا، وَيُظْهِرُ مَعَانِيهَا، وَيَكْشِفُ وُجُوهَ مُخَدَّرَاتِهَا، وَيُوَضِّحُ دَلَائِلَ أَبْيَاتِهَا، وَيَكُونُ لِأَبْنَاءِ زَمَانِنَا فِي مَعْرِفَةِ الْآدَابِ كَالْإِقْنَاعِ وَالْمُنْتَهَى فِي الْفِقْهِ عِنْدَ ذَوِي الْأَلْبَابِ ‏.‏

فَتَعَلَّلْت بِأَنَّ خَاتِمَةَ الْمُحَقِّقِينَ الشَّيْخَ مُوسَى الْحِجَّاوِيَّ قَدْ شَرَحَهَا، وَقَبْلَهُ أَوْحَدُ الْمُجْتَهِدِينَ الْقَاضِي عَلَاءُ الدِّينِ الْمَرْدَاوِيُّ قَدْ أَوْضَحَهَا، فَمَنْ أَنَا حَتَّى أَتَجَرَّأَ عَلَى شَرْحِ هَذِهِ الرِّسَالَةِ، وَأَدْخُلَ بَيْنَ الْبَحْرِ وَالنَّهَرِ بِهَذِهِ الْبُلَالَةِ، وَمَنْ لِي بِاطِّلَاعِ الْمَرْدَاوِيِّ وَتَحْقِيقِ الْحِجَّاوِيِّ‏؟‏ وَهَلْ أَنَا حِينَئِذٍ إلَّا كَمَنْ ذَهَبَ إلَى جَمَاعَةٍ فِيهِمْ ‏(‏بُقْرَاطُ‏)‏ وَ ‏(‏جَالِينُوسُ‏)‏ وَقَالَ أَنَا الطَّبِيبُ الْمُدَاوِي ‏.‏

فَقَالَ السَّائِلُ‏:‏ أَمَّا شَرْحُ الْمَرْدَاوِيِّ فَلَا يَكَادُ يُوجَدُ، وَأَمَّا شَرْحُ الْحِجَّاوِيِّ فَقَدْ اقْتَصَرَ عَلَى الْأَحْكَامِ بِأَوْجَزِ عِبَارَةٍ وَأَزْهَدَ، مَعَ حَذْفِهِ لِأَكْثَرِ أَبْيَاتِ الْمَنْظُومَةِ، أَوْ كَثِيرٍ مِنْهَا مَعَ الْحَاجَةِ إلَيْهَا وَعَدَمِ الْغِنَى عَنْهَا ‏.‏

وَنَحْنُ نَقْتَرِحُ عَلَيْك بَسْطَ الْعِبَارَةِ فِي الْأَخْبَارِ، وَضَبْطَ الْإِشَارَةِ فِي الْآثَارِ، لِيَكُونَ مَنْ أَحْرَزَ هَذِهِ الْفَوَائِدَ الْغَزِيرَةَ، مِنْ الصِّحَّةَ وَالْبَيَانِ، وَالتَّعْلِيلِ وَالدَّلِيلِ عَلَى بَصِيرَةٍ، فَمَنَّيْت الَّذِي إلَى بِضَاعَتِي الْمُزْجَاةِ يَرْغَبُ، وَوَعَدْتُهُ بِذَلِكَ وَالْوَعْدُ عِنْدَ الْحُرِّ دَيْنٌ يُطْلَبُ، وَقُلْت لَا بُدَّ، مِنْ إسْعَافِ هَذَا السَّائِلِ، وَلَوْ بِالتَّطَفُّلِ عَلَى الْكُتُبِ الْمُدَوَّنَةِ وَالرَّسَائِلِ، وَنَقْلِ الْأَخْبَارِ وَجَمْعِ الْمَسَائِلِ ‏.‏

فَإِنَّا فِي هَذَا الزَّمَانِ نَقُولُ كَمَا نَقَلَ النَّاقِلُ‏:‏ ‏"‏ لَمْ تَدَعْ الْأَوَائِلُ كَلِمَةً لِقَائِلٍ ‏"‏ وَالْمُظْهِرُ فِي زَمَانِنَا الْإِمَامَةَ وَالْعِلْمَ وَالْبَلَاغَةَ وَالْفَهْمَ بِالنِّسْبَةِ لِلصَّدْرِ الْأَوَّلِ، مِثْلُ أَنْ يُحَاجِيَ سَحْبَانَ بَاقِلُ، ثُمَّ أَخَذْتُ فِي تَحْصِيلِ الْمَوَادِّ الْمُعِينَةِ، وَالْكُتُبِ الصَّحِيحَةِ الْمَتِينَةِ، وَبَعْدَ الْوَعْدِ بِمُدَّةٍ تَزِيدُ عَلَى ثَلَاثِ سِنِينَ، شَرَعْت فِي الشَّرْحِ وَالتَّبْيِينِ ‏.‏

هَذَا مَعَ كَوْنِي فِي بَلْدَةٍ قَفْرٍ أَرْجَاؤُهَا مِنْ ظُلْمَةِ الْجَهْلِ غُبْرًا، وَعُلَمَاؤُهَا مِنْ الْعُلُومِ فُقَرَا، وَالْفِتَنُ فِي ضَوَاحِيهَا تَتْرَا، وَعَزَّتْ الْمَوَادُّ فِي قُطْرِ تَأْلِيفِهَا، وَفَقَدَ الْخِلُّ الْمَوَادَّ فِي مَخَالِيفِهَا ‏.‏

غَيْرَ أَنَّ الْعَبْدَ ابْتَهَلَ إلَى اللَّهِ، وَرَمَى نَفْسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَطَرَقَ بَابَهُ، وَطَلَبَ مِنْهُ الْمَعُونَةَ عَلَى شَيْءٍ سَهَّلَ أَسْبَابَهُ ‏.‏

فَقَدْ حَصَلَ لَدَيْنَا مِنْ الْمَادَّةِ الَّتِي لِنَيْلِ الْمَطْلُوبِ مُسَاعِدَةٌ عِدَّةُ أَسْفَارٍ، إذَا قَابَلَتْ لَيْلَ الْجَهْلِ انْقَشَعَ لِمَا فِيهَا مِنْ الْأَسْرَارِ وَالْأَنْوَارِ، مِثْلُ الْآدَابِ الْكُبْرَى لِابْنِ مُفْلِحٍ، وَمُخْتَصَرِهَا لِلْيُونِينِيِّ، وَشَرْحِ هَذِهِ الْمَنْظُومَةِ لِلْحِجَّاوِيِّ، وَالْإِقْنَاعِ وَالْمُنْتَهَى وَشُرُوحِهِمَا وَحَوَاشِيهِمَا، وَفُرُوعِ ابْنِ مُفْلِحٍ وَتَصْحِيحِهِ لِلْمَرْدَاوِيِّ، وَحَاشِيَتِهِ لِابْنِ قُنْدُسٍ، وَالْإِنْصَافِ لِلْمَرْدَاوِيِّ، وَالتَّنْقِيحِ لَهُ، وَحَاشِيَتِهِ لِلْحِجَّاوِيِّ، وَغَايَةِ الْمطلب لِلْجِرَاعِيِّ، وَالشَّرْحِ الْكَبِيرِ لِابْنِ أَبِي عُمَرَ الْمَقْدِسِيِّ، وَالْمُحَرَّرِ لِلْمَجْدِ، وَعِدَّةٌ مِنْ كُتُبِ فِقْهِ الْمَذْهَبِ ‏.‏

وَمِنْ كُتُبِ الْآثَارِ‏:‏ سِيرَةُ ابْنِ هِشَامٍ، وَسِيرَةُ الْحَلَبِيِّ، وَسِيرَةُ الشَّمْسِ لِلشَّامِيِّ، وَالْمَوَاهِبُ اللَّدُنِيَّةُ، وَتَحْبِيرُ الْوَفَا لَنَا، وَزَادُ الْمَعَادِ فِي هَدْيِ خَيْرِ الْعِبَادِ لِلْإِمَامِ الْمُحَقِّقِ ابْنِ الْقَيِّمِ، وَإِغَاثَةُ اللَّهْفَانِ، وَمِفْتَاحُ دَارِ السَّعَادَةِ، وَالرُّوحُ، وَحَادِي الْأَرْوَاحِ، وَشَرْحُ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ، وَالْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَأَعْلَامُ الْمُوَقِّعِينَ، وَالدَّاءُ وَالدَّوَاءُ، وَرَوْضَةُ الْمُحِبِّينَ، وَنُزْهَةُ الْمُشْتَاقِينَ، وَالْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ، وَتُحْفَةُ الْوَدُودِ، وَجَلَاءُ الْأَفْهَامِ، وَغَيْرُ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ مِنْ كُتُبِهِ ‏.‏

وَمِنْ كُتُبِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ‏:‏ التَّبْصِرَةُ، وَالْمَنْهَلُ الْمَوْرُودُ، وَمُنْتَخَبُ الْمُنْتَخَبِ، وَمَوَاسِمُ الْعُمْرِ، وَالْمَوْضُوعَاتُ، وَصَيْدُ الْخَاطِرِ، وَآدَابُ النِّسَاءِ ‏.‏

وَمِنْ كُتُبِ الْحَافِظِ ابْنِ رَجَبٍ‏:‏ لَطَائِفُ الْمَعَارِفِ، وَشَرْحُ الْأَرْبَعِينَ النَّوَوِيَّةِ وَاخْتِيَارُ الْأَوْلَى، وَاسْتِنْشَاقُ نَسِيمِ الْأُنْسِ، وَالذُّلُّ وَالِانْكِسَارُ، وَغَيْرُهَا مِنْ كُتُبِهِ الْمُفِيدَةِ وَأَجْزَائِهِ الْعَدِيدَةِ ‏.‏

وَمِنْ كُتُبِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ طَيَّبَ اللَّهُ ثَرَاهُ‏:‏ الْفَتَاوَى الْمِصْرِيَّةُ، وَالرِّسَالَةُ الْحَمَوِيَّةُ وَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ، وَرَفْعُ الْمَلَامِ عَنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ، وَالْوَابِلُ الصَّيِّبُ فِي الْكَلِمِ الطَّيِّبِ، وَالسِّيَاسَةُ الشَّرْعِيَّةُ فِي إصْلَاحِ الرَّاعِي وَالرَّعِيَّةِ، وَقَوَاعِدُ وَرَسَائِلُ لَهُ يَكْثُرُ ذِكْرُهَا ‏.‏

وَمِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ‏:‏ الْبَغَوِيُّ، وَالثَّعْلَبِيُّ، وَالْبَيْضَاوِيُّ، وَالْجَلَالَيْنِ، وَالْوَاحِدِيُّ وَغَيْرُهَا ‏.‏

وَمِنْ كُتُبِ اللُّغَةِ‏:‏ الْقَامُوسُ، وَجَمْهَرَةُ ابْنِ دُرَيْدٍ، وَنِهَايَةُ ابْنِ الْأَثِيرِ، وَمَطَالِعُ الْأَنْوَارِ، وَغَرِيبُ أَبِي عُبَيْدٍ، وَغَرِيبُ لُغَةِ الْإِقْنَاعِ، وَالْمُطْلِعُ ‏.‏

وَمِنْ الْكُتُبِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْحَدِيثِ‏:‏ التَّرْغِيبُ وَالتَّرْهِيبُ لِلْحَافِظِ الْمُنْذِرِيِّ، وَتَنْبِيهُ الْغَافِلِينَ لِلسَّمَرْقَنْدِيِّ، وَالْجَامِعُ الصَّغِيرُ لِلْجَلَالِ السُّيُوطِيِّ وَشُرُوحُهُ، وَالْهَيْئَةُ السَّنِيَّةُ فِي الْهَيْئَةِ السُّنِّيَّةِ لَهُ، وَالْأَوَائِلُ لَهُ، وَأَوَائِلُ عَلِيٍّ دَدَهْ، وَالتَّمْيِيزُ لِابْنِ الدَّيْبَعِ تِلْمِيذِ السَّخَاوِيِّ اخْتَصَرَهُ مِنْ الْمَقَاصِدِ الْحَسَنَةِ فِيمَا يَدُورُ مِنْ الْأَحَادِيثِ عَلَى الْأَلْسِنَةِ، وَتَسْهِيلُ السَّبِيلِ لِغَرْسِ الدِّينِ، وَمَوْضُوعَاتُ عَلِيٍّ الْقَارِي، وَمُسْنَدُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَالصَّحِيحَيْنِ، وَبَقِيَّةُ الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ، وَفَضَائِلُ الْأَعْمَالِ لِلضِّيَاءِ الْمَقْدِسِيِّ، وَغَيْرُ مَا ذَكَرْنَا فَقَدْ جَمَعْتُهُ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَثِمِائَةِ كِتَابٍ الَّتِي نَقَلْت مِنْهَا ‏.‏

وَبِحَسَبِ مَوَادِّ أَصْلِهَا تَزِيدُ عَلَى الْأُلُوفِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ ‏.‏

وَسَمَّيْتُهُ ‏(‏غِذَاءَ الْأَلْبَابِ، لِشَرْحِ مَنْظُومَةِ الْآدَابِ‏)‏ وَصَدَّرْتُهُ بِمُقَدِّمَةٍ تَشْتَمِلُ عَلَى أَمْرَيْنِ‏:‏ ‏(‏الْأَمْرُ الْأَوَّلُ‏)‏ هَذِهِ الْقَصِيدَةُ مِنْ بَحْرِ الطَّوِيلِ مِنْ الضَّرْبِ الثَّانِي، وَلَهُ عَرُوضٌ وَاحِدَةٌ مَقْبُوضَةٌ، وَالْقَبْضُ حَذْفُ خَامِسِ الْجُزْءِ، وَأَضْرُبُهُ ثَلَاثَةٌ ‏(‏الْأَوَّلُ‏)‏ صَحِيحٌ وَبَيْتُهُ‏:‏ أَبَا مُنْذِرٍ كَانَتْ غُرُورًا صَحِيفَتِي وَلَمْ أُعْطِكُمْ بِالطَّوْعِ مَالِي وَلَا عِرْضِي ‏(‏الثَّانِي‏)‏ مِثْلُهَا وَبَيْتُهُ‏:‏ سَتُبْدِي لَك الْأَيَّامُ مَا كُنْت جَاهِلًا وَيَأْتِيك بِالْأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوَّدْ ‏(‏وَالثَّالِثُ‏)‏ مَحْذُوفٌ وَبَيْتُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ‏:‏ أَقِيمُوا بَنِي النُّعْمَانِ عَنَّا صُدُورَكُمْ وَإِلَّا تُقِيمُوا صَاغِرِينَ الرُّءُوسَا وَالْحَذْفُ هُوَ ذَهَابُ سَبَبٍ خَفِيفٍ كَمَا فِي الْبَيْتِ ‏.‏

وَأَجْزَاءُ الطَّوِيلِ ثَمَانِيَةٌ‏:‏ ‏(‏فَعُولُنْ مَفَاعِيلُنْ فَعُولُنْ مَفَاعِيلُنْ‏)‏ ‏(‏فَعُولُنْ مَفَاعِيلُنْ فَعُولُنْ مَفَاعِيلُنْ‏)‏ ‏.‏

وَلْنُقَطِّعْ الْبَيْتَ الْأَوَّلَ مِنْ قَصِيدَةِ النَّاظِمِ رحمه الله تعالى وَرَضِيَ عَنْهُ لِيُقَاسَ عَلَيْهِ نَظَائِرُهُ ‏(‏بِحَمْدِ‏)‏ فَعُولُ دَخَلَهُ الْقَبْضُ وَهُوَ حَذْفُ خَامِسِ الْجُزْءِ سَاكِنًا كَمَا هُنَا ‏(‏كَ ذِي الْإِكْرَا‏)‏ مَفَاعِيلُنْ ‏(‏مِ مَا رُمْ‏)‏ فَعُولُنْ ‏(‏تُ أَبْتَدِي‏)‏ مَفَاعِلَنْ بِحَذْفِ خَامِسِهِ سَاكِنًا لِأَنَّ عَرُوضَهُ لَا تَكُونُ إلَّا كَذَلِكَ ‏(‏كَثِيرًا‏)‏ فَعُولُنْ ‏(‏كَمَا تَرْضَى‏)‏ مَفَاعِيلُنْ ‏(‏بِغَيْرِ‏)‏ فَعُولُ بِحَذْفِ سَاكِنِ السَّبَبِ الْخَفِيفِ وَهُوَ قَبْضٌ لِأَنَّهُ خَامِسُ الْجُزْءِ كَمَا عَلِمْت ‏(‏تَحَدُّدِ‏)‏ مَفَاعِلَنْ، وَالْحَرْفُ الْمُشَدَّدُ بِحَرْفَيْنِ، وَالْعَرُوضُ مُؤَنَّثَةٌ وَهِيَ آخِرُ الْمِصْرَاعِ الْأَوَّلِ، وَالضَّرْبُ مُذَكَّرٌ وَهُوَ آخِرُ الْمِصْرَاعِ الثَّانِي ‏.‏

وَأَمَّا الْقَافِيَةُ فَهِيَ مِنْ آخِرِ الْبَيْتِ إلَى أَوَّلِ مُتَحَرِّكٍ قَبْلَ سَاكِنٍ بَيْنَهُمَا وَتَكُونُ بَعْضَ كَلِمَةٍ كَمَا فِي قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ‏:‏ وُقُوفًا بِهَا صَحْبِي عَلَيَّ مَطِيَّهُمْ يَقُولُونَ لَا تَهْلِكْ أَسًى وَتَحَمَّلْ هِيَ مِنْ الْحَاءِ إلَى الْيَاءِ، وَتَكُونُ كَلِمَةً كَقَوْلِهِ‏:‏ فَفَاضَتْ دُمُوعُ الْعَيْنِ مِنِّي صَبَابَةً عَلَى النَّحْرِ حَتَّى بَلَّ دَمْعِي مَحْمَلِي وَفِي مَنْظُومَةِ النَّاظِمِ آخِرُ الْبَيْتِ الْيَاءُ السَّاكِنَةُ فِي جَمِيعِ الْقَصِيدَةِ وَالْمُتَحَرِّكُ الَّذِي قَبْلَ سَاكِنٍ هُوَ الدَّالُ الْمُهْمَلَةُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ‏.‏

‏(‏الثَّانِي فِي ذِكْرِ تَرْجَمَةِ النَّاظِمِ‏)‏ رحمه الله تعالى وَرَضِيَ عَنْهُ ‏.‏

هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْقَوِيِّ بْنِ بَدْرَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمِنْدَسِيُّ الْمَرْدَاوِيُّ الْفَقِيهُ الْمُحَدِّثُ النَّحْوِيُّ شَمْسُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ بِمَرْدَا، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ خَطِيبِ مَرْدَا وَعُثْمَانَ ابْنِ خَطِيبِ الْقَرَافَةِ، وَابْنِ عَبْدِ الْهَادِي، وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ خَلِيلٍ وَغَيْرِهِمْ ‏.‏

وَطَلَبَ وَقَرَأَ بِنَفْسِهِ، وَتَفَقَّهَ عَلَى الشَّيْخِ الْإِمَامِ شَمْسِ الدِّينِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ وَغَيْرِهِ، وَبَرَعَ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَاللُّغَةِ، وَاشْتَغَلَ وَدَرَّسَ وَأَفْتَى وَصَنَّفَ ‏.‏

وَقَالَ الذَّهَبِيُّ‏:‏ كَانَ حَسَنَ الدِّيَانَةِ، دَمِثَ الْأَخْلَاقِ، كَثِيرَ الْإِفَادَةِ، مُطَّرِحًا لِلتَّكْلِيفِ، وَلِيَ تَدْرِيسَ الصَّالِحِيَّةِ مُدَّةً، وَكَانَ يَحْضُرُ دَارَ الْحَدِيثِ وَيَشْتَغِلُ بِهَا وَبِالْجَبَلِ، يَعْنِي صَالِحِيَّةِ دِمَشْقَ ‏.‏

وَلَهُ حِكَايَاتٌ وَنَوَادِرُ، وَكَانَ مِنْ مَحَاسِنِ الشُّيُوخِ ‏.‏

قَالَ الذَّهَبِيُّ‏:‏ وَجَلَسْت عِنْدَهُ وَسَمِعْت كَلَامَهُ وَلِي مِنْهُ إجَازَةٌ ‏.‏

قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ فِي الطَّبَقَاتِ‏:‏ دَرَّسَ بِالْمَدْرَسَةِ الصَّالِحِيَّةِ بَعْدَ ابْنِ الْوَاسِطِيِّ، وَتَخَرَّجَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ الْفُضَلَاءِ، وَمِمَّنْ قَرَأَ عَلَيْهِ الْعَرَبِيَّةَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ بْنِ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ، وَلَهُ تَصَانِيفُ مِنْهَا فِي الْفِقْهِ الْقَصِيدَةُ الطَّوِيلَةُ الدَّالِيَّةُ وَكِتَابُ مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ لَمْ يُتِمَّهُ، وَكِتَابُ الْفُرُوقِ، وَعَمِلَ طَبَقَاتٍ لِلْأَصْحَابِ، وَحَدَّثَ وَرَوَى عَنْهُ إسْمَاعِيلُ بْنُ الْخَبَّازِ فِي مَشْيَخَتِهِ ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَتُوُفِّيَ ثَانِيَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَدُفِنَ بِسَفْحِ قَاسْيُونَ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ آمِينَ ‏.‏

قَالَ الشَّيْخُ مُوسَى بْنُ أَحْمَدَ بْنُ مُوسَى بْنُ سَالِمٍ الْحِجَّاوِيُّ صَاحِبُ الْإِقْنَاعِ‏:‏ وَلَمَّا نَظَمَ، يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الْقَوِيِّ الْقَصِيدَةَ الطَّوِيلَةَ فِي الْفِقْهِ أَتْبَعَهَا بِهَذِهِ الْقَصِيدَةِ فِي الْآدَابِ اقْتِدَاءً بِطَرِيقَةِ جَمَاعَةٍ مِنْ الْأَصْحَابِ، كَابْنِ أَبِي مُوسَى، وَالْقَاضِي، وَابْنِ حَمْدَانَ فِي رِعَايَتِهِ، وَصَاحِبِ الْمُسْتَوْعِبِ، وَغَيْرِهِمْ فِي إتْبَاعِ الْكِتَابِ بِخَاتِمَةٍ فِي الْآدَابِ، فَأَتْبَعَ كِتَابَهُ بِهَذِهِ الْقَصِيدَةِ ‏.‏

قُلْت‏:‏ وَمِمَّنْ سَلَكَ هَذَا الْأُسْلُوبَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنِ زَيْدٍ الْجِرَاعِيِّ فِي كِتَابِهِ غَايَةِ الْمطلب ‏.‏

قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ شَمْسُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُفْلِحٍ فِي صَدْرِ آدَابِهِ الْكُبْرَى‏:‏ وَقَدْ صَنَّفَ فِي هَذَا الْمَعْنَى يَعْنِي الْآدَابَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، كَأَبِي دَاوُدَ الْإِمَامِ السِّجِسْتَانِيِّ صَاحِبِ السُّنَنِ، وَأَبِي بَكْرٍ الْخَلَّالِ، وَأَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَبِي حَفْصٍ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي مُوسَى، وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى، وَابْنِ عَقِيلٍ، وَغَيْرِهِمْ ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَصَنَّفَ فِي بَعْضِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ كَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالدُّعَاءِ وَالطِّبِّ وَاللِّبَاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الْآجُرِّيُّ، وَأَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ، وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى، وَابْنُهُ أَبُو الْحُسَيْنِ، وَابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُمْ انْتَهَى ‏.‏

الْكَلَامُ عَلَى الْبَسْمَلَةِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْبَسْمَلَةَ سَاقِطَةٌ مِنْ أَوَّلِ النَّظْمِ، وَكَانَ ذَلِكَ لِكَوْنِ الْمَنْظُومَةِ تَتِمَّةً لِلْقَصِيدَةِ الطَّوِيلَةِ، أَوْ أَنَّ النَّاظِمَ رحمه الله تعالى أَتَى بِهَا لَفْظًا أَوْ لَفْظًا وَخَطًّا كَمَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَأَسْقَطَهَا بَعْضُ النُّسَّاخِ، وَنَحْنُ نَأْتِي بِهَا فَنَقُولُ‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم ‏.‏

إنَّمَا بَدَأَ الْمُصَنِّفُونَ كُتُبَهُمْ بِالْبَسْمَلَةِ تَأَسِّيًا بِالْكِتَابِ الْقَدِيمِ، وَاقْتِدَاءً بِالرَّسُولِ الْكَرِيمِ فِي مُكَاتَبَاتِهِ إلَى الْمُلُوكِ وَغَيْرِهِمْ، وَعَمَلًا بِحَدِيثِ ‏"‏ كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَهُوَ أَبْتَرُ ‏"‏ أَيْ ذَاهِبُ الْبَرَكَةِ، رَوَاهُ الْخَطِيبُ فِي كِتَابِهِ الْجَامِعِ ‏.‏

فَالْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ أَوْ لِاسْتِعَانَةٍ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ، وَتَقْدِيرُهُ فِعْلًا خَاصًّا مُؤَخَّرًا أَوْلَى ‏.‏

أَمَّا كَوْنُهُ فِعْلًا ‏;‏ فَلِأَنَّ أَصْلَ الْعَمَلِ لِلْأَفْعَالِ ‏.‏

وَأَمَّا كَوْنُهُ خَاصًّا فَلِأَنَّهُ أَنْسَبُ ‏.‏

وَأَمَّا كَوْنُهُ مُؤَخَّرًا لِيَكُونَ الِابْتِدَاءُ بِالْبَسْمَلَةِ حَقِيقَةً، وَالِاسْمُ مُشْتَقٌّ مِنْ السُّمُوِّ وَهُوَ الْعُلُوُّ، أَوْ السِّمَةُ وَهِيَ الْعَلَامَةُ ‏.‏

وَاَللَّهُ عَلَمٌ لِلذَّاتِ الْوَاجِبِ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، الْمُسْتَحِقِّ لِجَمِيعِ الْكَمَالَاتِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ أَلِهَ كَعَلِمَ إذَا تَحَيَّرَ لَتَحَيُّرِ الْخَلْقِ فِي كُنْهِ ذَاتِهِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ، وَقِيلَ مِنْ لَاهَ يَلِيهُ إذَا عَلَا، أَوْ مِنْ لَاهَ يَلُوهُ إذَا احْتَجَبَ ‏.‏

وَهُوَ عَرَبِيٌّ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَزَعَمَ الْبَلْخِيُّ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُ مُعَرَّبٌ فَقِيلَ عَرَبِيٌّ وَقِيلَ سُرْيَانِيٌّ، وَلَكِنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ مُعَرَّبٌ سَاقِطٌ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ ‏.‏

وَهُوَ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ‏.‏

وَعَدَمُ الْإِجَابَةِ لِأَكْثَرِ النَّاسِ مَعَ الدُّعَاءِ بِهِ لِتَخَلُّفِ بَعْضِ شُرُوطِهِ الَّتِي مِنْ أَهَمِّهَا الْإِخْلَاصُ وَأَكْلُ الْحَلَالِ ‏.‏

وَقَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ‏:‏ وَجَمَعَ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ الْحَيَّ الْقَيُّومَ ‏.‏

قَالَ فِي نُونِيَّتِهِ‏:‏ اسْمُ الْإِلَهِ الْأَعْظَمِ اشْتَمَلَا عَلَى اسْ مِ الْحَيِّ وَالْقَيُّومِ مُقْتَرِنَانِ فَالْكُلُّ مَرْجِعُهَا إلَى الِاسْمَيْنِ يَدْ رِيّ ذَاكَ ذُو بَصَرٍ بِهَذَا الشَّانِ وَالرَّحْمَنُ صِفَةٌ فِي الْأَصْلِ بِمَعْنَى كَثِيرِ الرَّحْمَةِ جِدًّا، ثُمَّ غَلَبَ عَلَى الْبَالِغِ فِي الرَّحْمَةِ غَايَتَهَا وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى ‏.‏

وَالرَّحِيمُ ذُو الرَّحْمَةِ الْكَثِيرَةِ، فَالرَّحْمَنُ أَبْلَغُ مِنْهُ، وَأَتَى بِهِ إشَارَةً إلَى أَنَّ مَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ دَقَائِقِ الرَّحْمَةِ وَإِنْ ذُكِرَ بَعْدَمَا دَلَّ عَلَى جَلَائِلِهَا الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ مَقْصُودٌ أَيْضًا لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ غَيْرُ مُلْتَفَتٍ إلَيْهِ ‏.‏

وَإِنَّمَا قُدِّمَ اللَّهُ عَلَى الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لِأَنَّهُ اسْمُ ذَاتٍ فِي الْأَصْلِ، وَهُمَا اسْمَا صِفَةٍ فِي الْأَصْلِ، وَالذَّاتُ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى الصِّفَةِ ‏.‏

وَإِنَّمَا قُدِّمَ الرَّحْمَنُ عَلَى الرَّحِيمِ لِأَنَّ الرَّحْمَنَ خَاصٌّ بِاَللَّهِ تَعَالَى، فَلَا يُقَالُ لِغَيْرِ اللَّهِ جَلَّ شَأْنُهُ ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُ بَنِي حَنِيفَةَ فِي مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ‏:‏ رَحْمَانُ الْيَمَامَةِ، وَقَوْلُ شَاعِرِهِمْ، وَأَنْتَ غَيْثُ الْوَرَى لَا زِلْت رَحْمَانًا، فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ تَعَنُّتِهِمْ فِي كُفْرِهِمْ، وَإِلَّا فَهُوَ كَاَللَّهِ خَاصٌّ بِاَللَّهِ لُغَةً وَشَرْعًا ‏.‏

قَالَ وَمِنْ ثَمَّ أُخِّرَ عَنْ اللَّهِ بِخِلَافِ الرَّحِيمِ فَلَيْسَ خَاصًّا بِهِ تَعَالَى بَلْ عَامٌّ بِهِ وَبِغَيْرِهِ تَعَالَى لِمَنْ قَامَ بِهِ مَعْنَاهُ ‏.‏

وَاعْتُرِضَ بِمَا خَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ الرَّحِيمُ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَنْتَحِلَهُ، وَحَمَلَهُ الْحَافِظُ السُّيُوطِيُّ عَلَى الْمُعَرَّفِ بِأَلْ دُونَ الْمُنَكَّرِ وَالْمُضَافِ، وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ، وَلِأَنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ الرَّحِيمِ كَمَا أَشَرْنَا لِزِيَادَةِ بِنَائِهِ عَلَى الرَّحِيمِ وَزِيَادَةُ الْبِنَاءِ تَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ الْمَعْنَى غَالِبًا كَمَا فِي قَطَعَ وَقَطَّعَ ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ الْعَادَةُ تَقْدِيمُ غَيْرِ الْأَبْلَغِ لِيَرْتَقِيَ مِنْهُ إلَى الْأَبْلَغِ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ عَالِمٌ نِحْرِيرٌ وَجَوَادٌ فَيَّاضٌ، فَالْجَوَابُ قَدْ قِيلَ إنَّ الرَّحِيمَ أَبْلَغُ، وَقِيلَ هُمَا سَوَاءٌ، غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ خُصَّ كُلٌّ مِنْهُمَا بِشَيْءٍ، فَقِيلَ رَحْمَنُ الدُّنْيَا وَرَحِيمُ الْآخِرَةِ، وَقِيلَ عَكْسُهُ، وَقِيلَ الرَّحْمَنُ أَمْدَحُ وَالرَّحِيمُ أَلْطَفُ ‏.‏

وَقِيلَ إنَّمَا خُولِفَتْ الْعَادَةُ لِأَنَّهُ أُرِيدَ أَنْ يُرْدَفَ الرَّحْمَنُ الَّذِي تَنَاوَلَ جَلَائِلَ النِّعَمِ وَأُصُولِهَا بِالرَّحِيمِ لِيَكُونَ كَالتَّتِمَّةِ وَالرَّدِيفِ لِتَنَاوُلِهِ مَا دَقَّ مِنْهَا وَلَطُفَ كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ ‏.‏

وَقَدْ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ فِي الْمُغْنِي‏:‏ الْحَقُّ قَوْلُ الْأَعْلَمِ وَابْنِ مَالِكٍ أَنَّ الرَّحْمَنَ لَيْسَ بِصِفَةٍ بَلْ عَلَمٍ ‏.‏

قَالَ وَبِهَذَا لَا يُتَّجَهُ السُّؤَالُ وَيَنْبَنِي عَلَى علميته أَنَّهُ فِي الْبَسْمَلَةِ وَنَحْوِهَا بَدَلٌ لَا نَعْتٌ، وَأَنَّ الرَّحِيمَ بَعْدَهُ نَعْتٌ لَهُ لَا نَعْتٌ لِاسْمِ اللَّهِ، إذْ لَا يُقَدَّمُ الْبَدَلُ عَلَى النَّعْتِ ‏.‏

قَالَ وَمِمَّا يُوَضِّحُ أَنَّهُ غَيْرُ صِفَةٍ مَجِيئُهُ كَثِيرًا غَيْرَ تَابِعٍ نَحْوُ ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ ‏}‏ ‏{‏قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَـنَ‏}‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ‏}‏ انْتَهَى ‏.‏

وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ مَجِيئَهُ كَثِيرًا غَيْرَ تَابِعٍ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الصِّفَةِ لِأَنَّ الْمَوْصُوفَ إذَا عُلِمَ جَازَ حَذْفُهُ وَإِبْقَاءُ صِفَتِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ‏}‏ أَيْ نَوْعٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَاخْتِلَافِ السَّمَوَاتِ وَالْجِبَالِ، وَعَلَى الْمَشْهُورِ أَنَّهُ صِفَةٌ كَالرَّحِيمِ بِحَسَبِ الْأَصْلِ فَمُشْتَقَّانِ مِنْ رَحُمَ بِجَعْلِهِ لَازِمًا بِنَقْلِهِ إلَى بَابِ فَعُلَ بِضَمِّ الْعَيْنِ أَوْ بِتَنْزِيلِهِ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ إذْ هُمَا صِفَتَانِ مُشَبَّهَتَانِ وَهِيَ لَا تُشْتَقُّ مِنْ مُتَعَدٍّ ‏.‏

وَرَحْمَتُهُ تَعَالَى صِفَةٌ قَدِيمَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ تَعَالَى تَقْتَضِي التَّفَضُّلَ وَالْإِنْعَامَ، وَأَمَّا تَفْسِيرُهَا بِرِقَّةٍ فِي الْقَلْبِ تَقْتَضِي الْإِنْعَامَ كَمَا فِي الْكَشَّافِ وَغَيْرِهِ إنَّمَا يَلِيقُ بِرَحْمَةِ الْمَخْلُوقِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ الْعِلْمُ، فَإِنَّ حَقِيقَتَهُ الْمُتَّصِفَ بِهَا تَعَالَى لَيْسَتْ مِثْلَ الْحَقِيقَةِ الْقَائِمَةِ بِالْمَخْلُوقِ، بَلْ نَفْسُ الْإِرَادَةِ الَّتِي يَرُدُّونَ الرَّحْمَةَ إلَيْهَا هِيَ فِي حَقِّهِ تَعَالَى مُخَالِفَةٌ لِإِرَادَةِ الْمَخْلُوقِ، إذْ هِيَ مَيْلُ قَلْبِهِ إلَى الْفِعْلِ أَوْ التَّرْكِ، وَإِرَادَتُهُ تَعَالَى بِخِلَافِ ذَلِكَ ‏.‏

وَكَذَا رَدُّ الزَّمَخْشَرِيِّ لَهَا فِي حَقِّهِ تَعَالَى إلَى الْفِعْلِ بِمَعْنَى الْإِنْعَامِ مَعَ أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ الِاخْتِيَارِيَّ إنَّمَا يَكُونُ لِجَلْبِ نَفْعٍ لِلْفَاعِلِ أَوْ دَفْعِ ضَرَرٍ عَنْهُ، وَفِعْلُهُ تَعَالَى بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَمَا فَرُّوا إلَيْهِ فِيهِ مِنْ الْمَحْذُورِ نَظِيرُ الَّذِي فَرُّوا مِنْهُ ‏.‏

وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى دَعْوَى الْمَجَازِ فِي رَحْمَتِهِ تَعَالَى، إذْ هُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ الْمُقْتَضِي لِصِحَّةِ نَفْيِهَا عَنْهُ وَضَعْفِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا فِيهِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْمَجَازِ، إذْ يَصِحُّ أَنْ نَقُولَ لِمَنْ قَالَ زَيْدٌ أَسَدٌ لَيْسَ بِأَسَدٍ وَلَيْسَتْ جَرَاءَتُهُ كَجَرَاءَتِهِ ‏.‏

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الصِّفَةَ تَارَةً تُعْتَبَرُ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ، وَتَارَةً مِنْ حَيْثُ قِيَامُهَا بِهِ تَعَالَى، وَتَارَةً مِنْ حَيْثُ قِيَامُهَا بِغَيْرِهِ تَعَالَى، وَلَيْسَتْ الِاعْتِبَارَاتُ الثَّلَاثَةُ مُتَمَاثِلَةً إذْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ تَعَالَى شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِهِ ‏.‏

ذَكَرَ ذَلِكَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِهِ بَدَائِعِ الْفَوَائِدِ ‏.‏

وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ وَهُوَ ‏"‏ كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَهُوَ أَبْتَرُ ‏"‏ قَدْ رُوِيَ بِلَفْظِ ‏"‏ كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ فَهُوَ أَقْطَعُ ‏"‏ رَوَاهُ عِنْدَ الْبَغَوِيِّ ‏"‏ بِحَمْدِ اللَّهِ ‏"‏، وَالْكُلُّ بِلَفْظِ ‏"‏ أَقْطَعُ ‏"‏ وَفِي رِوَايَةٍ ‏"‏ أَجْذَمُ ‏"‏، وَفِي رِوَايَةٍ ‏"‏ كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَهُوَ أَقْطَعُ ‏"‏ أَيْضًا وَفِي رِوَايَةٍ ‏"‏ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِذِكْرِ اللَّهِ ‏"‏ فَتَكُونُ الرِّوَايَاتُ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَبِالْحَمْدِ لِلَّهِ، وَبِحَمْدِ اللَّهِ، وَبِذِكْرِ اللَّهِ، وَأَقْطَعُ، وَهُوَ أَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ، وَأَبْتَرُ وَأَجْذَمُ ‏.‏

وَمَعْنَى ‏"‏ ذِي بَالٍ ‏"‏ أَيْ صَاحِبِ حَالٍ وَشَأْنٍ يُهْتَمُّ بِهِ شَرْعًا، فَيَخْرُجُ الْمُحَرَّمُ وَالْمَكْرُوهُ، وَمَعْنَى ‏"‏ الْأَبْتَرُ، وَالْأَقْطَعُ، وَالْأَجْذَمُ ‏"‏ نَاقِصُ الْبَرَكَةِ، فَإِنَّ الْبَتْرَ قَطْعُ الذَّنَبِ، وَالْقَطْعُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَالْجَذْمُ قَطْعُ الْأَطْرَافِ أَوْ فَسَادُهَا وَلَكِنْ فِي الْمَعْنَوِيِّ نَاقِصُ الْبَرَكَةِ بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا نَاقِصٌ ‏.‏

وَلِمُلَاحَظَةِ النَّاظِمِ رحمه الله تعالى رِوَايَةَ ‏"‏ كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ ‏"‏ بَدَأَ مَنْظُومَتَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ بِحَمْدِكَ ذِي الْإِكْرَامِ مَا رُمْت أَبْتَدِي كَثِيرًا كَمَا تَرْضَى بِغَيْرِ تَحَدُّدِ ‏(‏بِحَمْدِك‏)‏ أَيْ بِوَصْفِك الْجَمِيلِ الِاخْتِيَارِيِّ عَلَى قَصْدِ التَّعْظِيمِ وَالتَّبْجِيلِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ‏:‏ الْحَمْدُ لُغَةً‏:‏ هُوَ الثَّنَاءُ بِاللِّسَانِ عَلَى الْجَمِيلِ الِاخْتِيَارِيِّ عَلَى جِهَةِ التَّعْظِيمِ وَالتَّبْجِيلِ ‏.‏

وَالْحَمْدُ عُرْفًا فِعْلٌ يُنْبِئُ عَنْ تَعْظِيمِ الْمُنْعِمِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُنْعِمٌ عَلَى الْحَامِدِ أَوْ غَيْرِهِ ‏.‏

وَأَمَّا الشُّكْرُ لُغَةً فَهُوَ‏:‏ الْحَمْدُ الْعُرْفِيُّ، وَعُرْفًا صَرْفُ الْعَبْدِ جَمِيعَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ إلَى مَا خُلِقَ لِأَجْلِهِ ‏.‏

فَبَيْنَ الْحَمْدِ اللُّغَوِيِّ وَالْعُرْفِيِّ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ، فَيَجْتَمِعَانِ فِيمَا إذَا كَانَ بِاللِّسَانِ فِي مُقَابَلَةِ نِعْمَةٍ، وَيَتَفَرَّدُ اللُّغَوِيُّ فِيمَا إذَا كَانَ بِاللِّسَانِ لَا فِي مُقَابَلَةِ نِعْمَةٍ، وَيَنْفَرِدُ الْعُرْفِيُّ بِصِدْقِهِ بِغَيْرِ اللِّسَانِ فِي مُقَابَلَةِ نِعَمِهِ ‏.‏

فَمَوْرِدُ الْحَمْدِ الْعُرْفِيِّ أَعَمُّ وَهُوَ اللِّسَانُ وَالْأَرْكَانُ، وَمُتَعَلِّقُهُ أَخَصُّ وَهُوَ كَوْنُهُ فِي مُقَابَلَةِ نِعْمَةٍ، وَالْحَمْدُ اللُّغَوِيُّ عَكْسُهُ، وَالْحَمْدُ اللُّغَوِيُّ مَعَ الشُّكْرِ اللُّغَوِيِّ كَذَلِكَ، إذْ الشُّكْرُ اللُّغَوِيُّ هُوَ الْحَمْدُ الْعُرْفِيُّ كَمَا عُلِمَ ‏.‏

وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَفْتَتِحُ خُطَبَهُ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَلِذَا جُعِلَتْ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ فِي أَوَّلِ الْمُصْحَفِ لِافْتِتَاحِهَا بِالْحَمْدِ لِلَّهِ وَتَضَمُّنِهَا الثَّنَاءَ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ‏.‏

وَنَقِيضُ الْحَمْدِ الذَّمُّ، وَنَقِيضُ الشُّكْرِ الْكُفْرُ ‏.‏

‏(‏ذِي‏)‏ أَيْ صَاحِبِ ‏(‏الْإِكْرَامِ‏)‏ فَذِي بَدَلٌ مِنْ الْكَافِ فِي بِحَمْدِك، وَالْإِكْرَامِ مُضَافٌ إلَيْهِ أَيْ مُكْرِمِ أَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ بِلُطْفِهِ وَمِنَّتِهِ ‏.‏

وَفِي الْقُرْآنِ ‏{‏وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ‏}‏ وَفِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ ‏"‏ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا سَلَّمَ مِنْ صَلَاتِهِ لَمْ يَقْعُدْ إلَّا مِقْدَارَ مَا يَقُولُ اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْك السَّلَامُ تَبَارَكْت يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ‏"‏ رَوَاهُ مُسْلِمٌ ‏.‏

‏(‏مَا‏)‏ مَوْصُولٌ حَرْفِيٌّ ‏(‏رُمْت‏)‏ مِنْ الرَّوْمِ وَهُوَ الطَّلَبُ كَالْمَرَامِ ‏(‏أَبْتَدِي‏)‏ أَيْ آتِي فِي ابْتِدَاءِ كَلَامِي، أَيْ رَوْمُ ابْتِدَائِي كَائِنٌ بِحَمْدِك، أَوْ مَوْصُولُ اسْمِي، أَيْ الَّذِي رُمْت ابْتِدَاءَهُ كَائِنٌ بِحَمْدِك ‏.‏

فَبِحَمْدِك مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وَرَوْمُ ابْتِدَائِي مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ، يُقَالُ ابْتَدَأَ الشَّيْءَ فَعَلَهُ ابْتِدَاءً كَأَبْدَاهُ وَابْتَدَاهُ، ‏(‏كَثِيرًا‏)‏ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ أَبْتَدِي بِحَمْدِك حَمْدًا كَثِيرًا ‏(‏كَمَا‏)‏ أَيْ كَاَلَّذِي ‏(‏تَرْضَاهُ‏)‏ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ‏(‏بِغَيْرِ تَحَدُّدِ‏)‏ بَلْ مُطْلَقٌ عَنْ التَّحْدِيدِ وَالتَّقْيِيدِ، لِأَنَّ الْعَبْدَ وَلَوْ أَفْنَى عُمْرَهُ فِي الثَّنَاءِ عَلَى رَبِّهِ جَلَّ شَأْنُهُ مَا أَدَّى عُشْرَ مِعْشَارِ مَا لَهُ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ، وَلَكِنَّهُ جَلَّ شَأْنُهُ لِعَظِيمِ لُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ يَرْضَى مِنْ عِبَادِهِ بِالْيَسِيرِ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِالْعَجْزِ وَالتَّقْصِيرِ ‏.‏

‏(‏وَفِي‏)‏ السُّنَنِ عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ رضي الله عنه قَالَ‏:‏ ‏"‏ صَلَّيْت خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَعَطَسْت فَقُلْت‏:‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم انْصَرَفَ فَقَالَ‏:‏ مَنْ الْمُتَكَلِّمُ فِي الصَّلَاةِ‏؟‏ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، ثُمَّ قَالَهَا الثَّانِيَةَ‏:‏ مَنْ الْمُتَكَلِّمُ فِي الصَّلَاةِ‏؟‏ فَقَالَ رِفَاعَةُ بْنُ رَافِعٍ‏:‏ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ‏.‏

قَالَ‏:‏ كَيْفَ قُلْت‏؟‏ قَالَ‏:‏ قُلْت الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى ‏.‏

فَقَالَ‏:‏ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ ابْتَدَرَهَا بِضْعَةٌ وَثَلَاثُونَ مَلَكًا أَيُّهُمْ يَصْعَدُ بِهَا ‏"‏ قَالَ التِّرْمِذِيُّ‏:‏ حَدِيثٌ حَسَنٌ ‏.‏

وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ ‏"‏ عَطَسَ شَابٌّ مِنْ الْأَنْصَارِ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ حَتَّى يَرْضَى رَبُّنَا وَبَعْدَ مَا يَرْضَى مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ مَنْ الْقَائِلُ الْكَلِمَةَ‏؟‏ فَسَكَتَ الشَّابُّ، ثُمَّ قَالَ مَنْ الْقَائِلُ الْكَلِمَةَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ بَأْسًا‏؟‏ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا قُلْتُهَا لَمْ أُرِدْ بِهَا إلَّا خَيْرًا ‏.‏

قَالَ‏:‏ مَا تَنَاهَتْ دُونَ عَرْشِ الرَّحْمَنِ جَلَّ ذِكْرُهُ ‏"‏ ‏.‏

وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ رضي الله عنه قَالَ ‏"‏ صَلَّيْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَجُلٌ الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ مَنْ الْقَائِلُ‏؟‏ قَالَ الرَّجُلُ‏:‏ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا أَرَدْت إلَّا خَيْرًا، فَقَالَ‏:‏ لَقَدْ فُتِحَتْ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ فَلَمْ يَنْهَهَا شَيْءٌ دُونَ الْعَرْشِ ‏"‏ ‏.‏

‏(‏فَائِدَةٌ‏)‏ ذَكَرَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ أَفْضَلَ صِيَغِ الْحَمْدِ‏:‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَمْدًا يُوَافِي نِعَمَهُ، وَيُكَافِئُ مَزِيدَهُ، وَرُفِعَ ذَلِكَ لِلْإِمَامِ الْمُحَقِّقِ شَمْسِ الدِّينِ ابْنِ الْقَيِّمِ طَيَّبَ اللَّهُ ثَرَاهُ فَأَنْكَرَ عَلَى قَائِلِهِ غَايَةَ الْإِنْكَارِ بِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَرِدْ فِي الصِّحَاحِ وَلَا السُّنَنِ وَلَا يُعْرَفُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ الْمُعْتَمَدَةِ وَلَا لَهُ إسْنَادٌ مَعْرُوفٌ، وَإِنَّمَا يُرْوَى عَنْ أَبِي نَصْرٍ التَّمَّارِ عَنْ سَيِّدِنَا آدَمَ أَبِي الْبَشَرِ عليه الصلاة والسلام ‏.‏

قَالَ وَلَا يَدْرِي كَمْ بَيْنَ آدَمَ وَأَبِي نَصْرٍ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى ‏.‏

قَالَ أَبُو نَصْرٍ‏:‏ قَالَ آدَمُ يَا رَبِّ شَغَلْتَنِي بِكَسْبِ يَدِي فَعَلِّمْنِي شَيْئًا مِنْ مَجَامِعِ الْحَمْدِ وَالتَّسْبِيحِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ يَا آدَمُ إذَا أَصْبَحْت فَقُلْ ثَلَاثًا وَإِذَا أَمْسَيْت فَقُلْ ثَلَاثًا‏:‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَمْدًا يُوَافِي نِعَمَهُ وَيُكَافِئُ مَزِيدَهُ فَذَلِكَ مَجَامِعُ الْحَمْدِ وَالتَّسْبِيحِ ‏.‏

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ‏:‏ فَهَذَا لَوْ رَوَاهُ أَبُو نَصْرٍ التَّمَّارُ عَنْ سَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ صلى الله عليه وسلم لَمَا قُبِلَتْ رِوَايَتُهُ لِانْقِطَاعِ الْحَدِيثِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَيْفَ بِرِوَايَتِهِ لَهُ عَنْ آدَمَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ وَبَنَى عَلَى هَذَا بَعْضُ النَّاسِ مَسْأَلَةً فِقْهِيَّةً فَقَالَ‏:‏ لَوْ حَلَفَ إنْسَانٌ لَيَحْمَدَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِمَجَامِعِ الْحَمْدِ وَأَجَلِّ الْمَحَامِدِ فَطَرِيقُهُ فِي بِرِّ يَمِينِهِ أَنْ يَقُولَ الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا يُوَافِي نِعَمَهُ وَيُكَافِئُ مَزِيدَهُ ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَمَعْنَى يُوَافِي نِعَمَهُ أَيْ يُلَاقِيهَا فَتَحْصُلُ النِّعَمُ مَعَهُ ‏.‏

وَيُكَافِئُ مَهْمُوزٌ أَيْ يُسَاوِي مَزِيدَ نِعَمِهِ ‏.‏

وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَقُومُ بِشُكْرِ مَا زَادَ مِنْ النِّعَمِ وَالْإِحْسَانِ، ثُمَّ رَدَّ هَذَا بِمَا يَطُولُ ‏.‏

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُحْصِي ثَنَاءً عَلَى رَبِّهِ وَلَوْ اجْتَهَدَ فِي الثَّنَاءِ طُولَ عُمْرِهِ ‏.‏

رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ‏:‏ قَالَ دَاوُدُ ‏"‏ إلَهِي لَوْ أَنَّ لِكُلِّ شَعْرَةٍ مِنِّي لِسَانَيْنِ يُسَبِّحَانِكَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالدَّهْرَ كُلَّهُ مَا قَضَيْت حَقَّ نِعْمَةٍ وَاحِدَةٍ ‏"‏ ‏.‏

وَرُوِيَ فِيهِ أَيْضًا عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ‏:‏ ‏"‏ لَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى دَاوُدَ ‏{‏اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ‏}‏ قَالَ يَا رَبِّ كَيْفَ أُطِيقُ شُكْرَك وَأَنْتَ الَّذِي تُنْعِمُ عَلَيَّ ثُمَّ تَرْزُقُنِي عَلَى النِّعْمَةِ الشُّكْرَ ثُمَّ تَزِيدُنِي نِعْمَةً بَعْدَ نِعْمَةٍ، فَالنِّعْمَةُ مِنْك يَا رَبِّ، فَكَيْفَ أُطِيقُ شُكْرَك‏؟‏ قَالَ الْآنَ عَرَفْتَنِي يَا دَاوُدُ ‏"‏ انْتَهَى ‏.‏

فَلَا يَطْمَعُ الْعَبْدُ فِي أَدَاءِ شُكْرِ أَقَلِّ نِعْمَةٍ إلَّا بِالِاعْتِرَافِ بِالْعَجْزِ ‏.‏

وَصَلِّ عَلَى خَيْرِ الْأَنَامِ وَآلِهِ وَأَصْحَابِهِ مِنْ كُلِّ هَادٍ وَمُهْتَدِ ‏(‏وَصَلِّ‏)‏ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صَنِيعَ النَّاظِمِ رحمه الله عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ لِلْمُخَاطَبِ، وَتَكُونَ الْوَاوُ عَاطِفَةً عَلَى جُمْلَةٍ مُقَدَّرَةٍ، أَيْ احْمَدْ رَبَّك ذَا الْإِكْرَامِ وَصَلِّ ‏.‏

وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ وَصَلِّ يَا اللَّهُ فَإِنَّ ‏(‏صَلِّ‏)‏ فِعْلُ دُعَاءٍ ‏.‏

وَكُنْت رَأَيْت فِي بَعْضِ النُّسَخِ مَا هَذَا صُورَتُهُ‏:‏ بِحَمْدِك ذِي الْإِكْرَامِ مَا رُمْت أَبْتَدِي كَذَاكَ كَمَا تَرْضَى بِغَيْرِ تَحَدُّدِ ‏.‏

أُصَلِّي إلَخْ ‏.‏

فَيَكُونُ الْمَعْنَى كَمَا أَنَّ رَوْمَ ابْتِدَائِي بِحَمْدِك كَذَاك أَيْ مِثْلُهُ كَمَا تَرْضَاهُ بِغَيْرِ تَحَدُّدٍ أُصَلِّي ‏.‏

وَبِغَيْرِ تَحَدُّدِ مُتَعَلِّقٌ بِأُصَلِّي، وَيَكُونُ شَطْرُ الْبَيْتِ الْأَوَّلِ مُتَعَلِّقًا بِالثَّانِي ‏.‏

مَعْنَى صَلَاةِ اللَّهِ عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم وَالصَّلَاةُ مِنْ اللَّهِ الرَّحْمَةُ، وَمِنْ الْمَلَائِكَةِ الِاسْتِغْفَارُ، وَمِنْ الْآدَمِيِّينَ التَّضَرُّعُ وَالدُّعَاءُ بِخَيْرٍ ‏.‏

قَالَ الضَّحَّاكُ‏:‏ صَلَاةُ اللَّهِ رَحْمَتُهُ، وَصَلَاةُ الْمَلَائِكَةِ الدُّعَاءُ ‏.‏

وَقَالَ الْمُبَرِّدُ‏:‏ أَصْلُ الدُّعَاءِ الرَّحْمَةُ، فَهُوَ مِنْ اللَّهِ رَحْمَةٌ، وَمِنْ الْمَلَائِكَةِ رِقَّةٌ وَاسْتِدْعَاءٌ لِلرَّحْمَةِ مِنْ اللَّهِ ‏.‏

وَقِيلَ صَلَاةُ اللَّهِ مَغْفِرَتُهُ ‏.‏

وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ الضَّحَّاكِ أَيْضًا نَقَلَهُ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِهِ جَلَاءِ الْأَفْهَامِ فِي فَضْلِ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى خَيْرِ الْأَنَامِ، وَلَمْ يَرْضَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا اخْتَارَ كَوْنَ الصَّلَاةِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ثَنَاؤُهُ جَلَّ شَأْنُهُ عَلَيْهِ وَإِرَادَتُهُ لِرَفْعِ ذِكْرِهِ وَتَقْرِيبِهِ، وَكَذَلِكَ ثَنَاءُ مَلَائِكَتِهِ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏.‏

وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ‏:‏ صَلَاةُ اللَّهِ عَلَى رَسُولِهِ ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ عِنْدَ مَلَائِكَتِهِ انْتَهَى ‏.‏

وَأَمَّا صَلَاةُ الْمَلَائِكَةِ وَالْآدَمِيِّينَ ‏(‏الصلاة عَلَى النبي‏)‏ فَهِيَ سُؤَالُهُمْ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِهِ، وَيَكُونُ تَسْمِيَةُ الْعَبْدِ مُصَلِّيًا لِوُجُودِ حَقِيقَةِ الصَّلَاةِ مِنْهُ فَإِنَّ حَقِيقَتَهَا الثَّنَاءُ وَإِرَادَةُ الْإِكْرَامِ وَالتَّقْرِيبِ وَإِعْلَاءِ الْمَنْزِلَةِ وَالْإِنْعَامِ، فَهُوَ حَاصِلٌ مِنْ الْعَبْدِ، غَيْرَ أَنَّهُ يُرِيدُ ذَلِكَ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَاَللَّهُ جَلَّ شَأْنُهُ يُرِيدُ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يَفْعَلهُ بِرَسُولِهِ ‏.‏

وَأَطَالَ الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ ‏.‏

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَشْهُورَ فِي تَفْسِيرِ الصَّلَاةِ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا، غَيْرَ أَنَّ كَلَامَ ابْنِ الْقَيِّمِ فِي غَايَةِ التَّحْقِيقِ - وَاَللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ ‏.‏

‏(‏عَلَى خَيْرِ الْأَنَامِ‏)‏ كَسَحَابٍ، وَالْأَنَامُ بِالْمَدِّ والْأَنِيمُ كَأَمِيرٍ‏:‏ الْخَلْقُ، أَوْ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ، أَوْ جَمِيعُ مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ كَمَا فِي الْقَامُوسِ ‏.‏

نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم أَفْضَلُ الْخَلْقِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم خَيْرُ الْخَلَائِقِ تَفْصِيلًا وَجَمْلًا ‏.‏

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا‏:‏ ‏"‏ مَا خَلَقَ خَلْقًا وَلَا بَرَأَهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ‏.‏

وَفِي أَبِي نُعَيْمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏ أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ وَلَا فَخْرَ ‏"‏ ‏.‏

وَرَوَى الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا قَالَ ‏"‏ أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ ‏"‏ وَنَحْوُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ‏.‏

وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ ‏.‏

فَضْلُ الِابْتِدَاءِ بِالصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا أَتْبَعَ النَّاظِمُ ‏(‏الْحَمْدَلَةَ‏)‏ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم لِمَا وَرَدَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ ‏"‏ كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيَّ فَهُوَ أَقْطَعُ أَبْتَرُ مَمْحُوقُ الْبَرَكَةِ ‏"‏ قَالَ فِي تَسْهِيلِ السَّبِيلِ‏:‏ وَهُوَ ضَعِيفٌ ‏.‏

قُلْت‏:‏ وَظَاهِرُ كَلَامِ الْإِمَامِ ابْنِ الْقَيِّمِ عَدَمُ ضَعْفِهِ ‏.‏

قَالَ فِي كِتَابِهِ جَلَاءِ الْأَفْهَامِ ‏(‏الْمَوْطِنُ الْأَرْبَعُونَ‏)‏ ‏.‏

مِنْ مَوَاطِنِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ كُلِّ ذِي بَالٍ فَإِنَّهُ يُبْتَدَأُ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ ثُمَّ بِالصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يَذْكُرُ كَلَامَهُ بَعْدَ ذَلِكَ ‏.‏

أَمَّا ابْتِدَاؤُهُ بِالْحَمْدِ ‏(‏الصلاة عَلَى النبي‏)‏ ‏;‏ فَلِمَا فِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ ‏"‏ كُلُّ كَلَامٍ لَا يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ فَيُبْدَأُ بِهِ وَبِالصَّلَاةِ عَلَيَّ فَهُوَ أَقْطَعُ مَمْحُوقٌ مِنْ كُلِّ بَرَكَةٍ ‏"‏ انْتَهَى ‏.‏

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِم وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا ‏"‏ ‏.‏

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏ مَنْ ذُكِرْت عِنْدَهُ فَلْيُصَلِّ عَلَيَّ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا ‏"‏ وَفِي رِوَايَةٍ ‏"‏ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرَ صَلَوَاتٍ وَحَطَّ عَنْهُ عَشْرَ خَطِيئَاتٍ ‏"‏ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ وَالْأَوْسَطِ ‏.‏

وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما قَالَ ‏"‏ مَنْ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَمَلَائِكَتُهُ سَبْعِينَ صَلَاةً ‏"‏ ‏.‏

وَعَنْ أُبَيِّيَ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه قَالَ‏:‏ ‏"‏ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا ذَهَبَ رُبْعُ اللَّيْلِ قَامَ فَقَالَ‏:‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اُذْكُرُوا اللَّهَ اُذْكُرُوا اللَّهَ، جَاءَتْ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ، جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ ‏.‏

قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ فَقُلْت‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أُكْثِرُ الصَّلَاةَ فَكَمْ أَجْعَلُ لَك مِنْ صَلَاتِي‏؟‏ قَالَ‏:‏ مَا شِئْت ‏.‏

قُلْت‏:‏ الرُّبْعَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ مَا شِئْت وَإِنْ زِدْت فَهُوَ خَيْرٌ لَك ‏.‏

قُلْت‏:‏ النِّصْفَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ مَا شِئْت وَإِنْ زِدْت فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ ‏.‏

قُلْت‏:‏ أَجْعَلُ لَك صَلَاتِي كُلَّهَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ إذَنْ تُكْفَى هَمَّكَ وَيُغْفَرُ ذَنْبُك ‏"‏ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ ‏.‏

وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ‏:‏ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْهُ قَالَ ‏"‏ قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت إنْ جَعَلْت صَلَاتِي كُلَّهَا عَلَيْك‏؟‏ قَالَ‏:‏ إذَنْ يَكْفِيكَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هَمَّك مِنْ دُنْيَاك وَآخِرَتِك ‏"‏ ‏.‏

قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ‏:‏ قَوْلُهُ يَعْنِي أُبَيَّا بْنَ كَعْبٍ‏:‏ أُكْثِرُ الصَّلَاةَ فَكَمْ أَجْعَلُ لَك مِنْ صَلَاتِي، مَعْنَاهُ أُكْثِرُ الدُّعَاءَ فَكَمْ أَجْعَلُ لَك مِنْ دُعَائِي ‏.‏

قَالَ فِي جَلَاءِ الْأَفْهَامِ‏:‏ وَسُئِلَ شَيْخُنَا أَبُو الْعَبَّاسِ عَنْ تَفْسِيرِ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ‏:‏ كَانَ لِأُبَيِّيَ بْنِ كَعْبٍ دُعَاءٌ يَدْعُو بِهِ لِنَفْسِهِ، فَسَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هَلْ يَجْعَلُ لَهُ مِنْهُ رُبْعَهُ صَلَاةً عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ إنْ زِدْت فَهُوَ خَيْرٌ لَك، فَقَالَ لَهُ النِّصْفَ فَقَالَ إنْ زِدْت فَهُوَ خَيْرٌ لَك إلَى أَنْ قَالَ أَجْعَلُ لَك صَلَاتِي كُلَّهَا أَيْ أَجْعَلُ دُعَائِي كُلَّهُ صَلَاةً عَلَيْك، قَالَ إذَنْ تُكْفَى هَمَّكَ وَيُغْفَرُ لَك ذَنْبُك، لِأَنَّ مَنْ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، وَمَنْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ كَفَاهُ هَمَّهُ وَغَفَرَ لَهُ ذَنْبَهُ ‏.‏

انْتَهَى كَلَامُهُ رضي الله عنه ‏.‏

وَعَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ قَالَ ‏"‏ كُلُّ دُعَاءٍ مَحْجُوبٌ حَتَّى يُصَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مَوْقُوفًا وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، وَرَفَعَهُ بَعْضُهُمْ وَالْمَوْقُوفُ أَصَحُّ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي قُرَّةَ الْأَسَدِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِهِ مَوْقُوفًا قَالَ ‏"‏ إنَّ الدُّعَاءَ مَوْقُوفٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا يَصْعَدُ مِنْهُ شَيْءٌ حَتَّى يُصَلَّى عَلَى نَبِيِّك مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ‏.‏

 مطلب فِي مَرَاتِبِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ

صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الدُّعَاءِ

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي جَلَاءِ الْأَفْهَامِ‏:‏ الْمَوْطِنُ السَّابِعُ مِنْ مَوَاطِنِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الدُّعَاءِ وَلَهُ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ‏:‏ إحْدَاهَا أَنْ يُصَلِّيَ قَبْلَ الدُّعَاءِ وَبَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ، الثَّانِيَةُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ الدُّعَاءِ وَأَوْسَطِهِ وَآخِرِهِ، الثَّالِثَةُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ وَيَجْعَلَ حَاجَتَهُ مُتَوَسِّطَةً بَيْنَهُمَا ‏.‏

أَمَّا دَلِيلُ الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى فَحَدِيثُ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ رَبِّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يَدْعُو بَعْدُ بِمَا شَاءَ ‏"‏ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ ‏.‏

وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَحَدِيثُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لَا تَجْعَلُونِي كَقَدَحِ الرَّاكِبِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَقَالَ‏:‏ اجْعَلُونِي فِي وَسَطِ الدُّعَاءِ وَفِي أَوَّلِهِ وَفِي آخِرِهِ ‏"‏ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ ‏.‏

وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَقَالَ فِي جَلَاءِ الْأَفْهَامِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي الْحَوَارِيِّ سَمِعْت أَبَا سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيَّ رحمه الله يَقُولُ‏:‏ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ حَاجَتَهُ فَلْيَبْدَأْ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلْيَسْأَلْ حَاجَتَهُ وَلْيَخْتِمْ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَقْبُولَةٌ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَكْرَمُ أَنْ يَرُدَّ مَا بَيْنَهُمَا ‏.‏

انْتَهَى ‏.‏

وَرَوَى أَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ فِي كِتَابٍ لَمْ تَزَلْ الْمَلَائِكَةُ يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ مَادَامَ اسْمِي فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ ‏"‏ قَالَ فِي جَلَاءِ الْأَفْهَامِ‏:‏ رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ أُسَيْدٍ كَذَلِكَ، وَرَوَاهُ إسْحَاقُ بْنُ وَهْبٍ الْعَلَّافُ عَنْ بِشْرِ بْنِ عُبَيْدٍ فَقَالَ عَنْ حَازِمِ بْنِ بَكْرٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عِيَاضٍ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ‏.‏

قَالَ وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ رضي الله عنهم ‏.‏

وَرَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ الرَّبِيعِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ فِي كِتَابٍ لَمْ تَزَلْ الصَّلَاةُ جَارِيَةً لَهُ مَا دَامَ اسْمِي فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ ‏"‏ وَذَكَرَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي جِلَاءِ الْأَفْهَامِ مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ عَلِيٍّ الزَّعْفَرَانِيِّ قَالَ‏:‏ سَمِعْت خَالِي الْحَسَنَ بْنَ مُحَمَّدٍ يَقُولُ‏:‏ رَأَيْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ رضي الله عنه فِي النَّوْمِ فَقَالَ يَا أَبَا عَلِيٍّ لَوْ رَأَيْت صَلَاتَنَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْكُتُبِ كَيْفَ تَزْهُو بَيْنَ يَدَيْنَا‏؟‏ وَلِذَا قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ‏:‏ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ الْحَدِيثِ فَائِدَةٌ إلَّا الصَّلَاةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ يُصَلِّي عَلَيْهِ مَا دَامَ اسْمُهُ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ صلى الله عليه وسلم ‏.‏

وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ‏:‏ رَأَيْت الشَّافِعِيَّ رضي الله عنه فِي النَّوْمِ فَقُلْت مَا فَعَلَ اللَّهُ بِك‏؟‏ فَقَالَ رَحِمَنِي وَغَفَرَ لِي وَزَفَّنِي إلَى الْجَنَّةِ كَمَا تُزَفُّ الْعَرُوسُ، وَنَثَرَ عَلَيَّ كَمَا يُنْثَرُ عَلَى الْعَرُوسِ، فَقُلْت بِمَاذَا بَلَغْت هَذِهِ الْحَالَةَ‏؟‏ فَقَالَ لِي قَائِلٌ‏:‏ بِقَوْلِك فِي ‏(‏كِتَابِ الرِّسَالَةِ‏)‏ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قُلْت فَكَيْفَ ذَلِكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ عَدَدَ مَا ذَكَرَهُ الذَّاكِرُونَ وَعَدَدَ مَا غَفَلَ عَنْ ذِكْرِهِ الْغَافِلُونَ فَلَمَّا أَصْبَحْت نَظَرْت إلَى الرِّسَالَةِ فَوَجَدْت الْأَمْرَ كَمَا رَأَيْت صلى الله عليه وسلم ‏.‏

وَذَكَرَ فِي جَلَاءِ الْأَفْهَامِ مِنْ هَذَا أَشْيَاءَ كَثِيرَةً ‏.‏

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا ‏"‏ جَاءَنِي جِبْرِيلُ عليه السلام فَقَالَ إنَّهُ مَنْ ذُكِرْت عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْك فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ وَأَسْحَقَهُ، فَقُلْت آمِينَ ‏"‏ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ ‏.‏

وَمِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رضي الله عنه مَرْفُوعًا ‏"‏ أَنَّ جِبْرِيلَ عَرَضَ لِي فَقَالَ بَعُدَ مَنْ ذُكِرْت عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْك فَقُلْت آمِينَ ‏"‏ رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا ‏"‏ رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْت عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ ‏"‏ ‏.‏

وَعَنْ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ رضوان الله عليهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏ الْبَخِيلُ مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ ‏"‏ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَزَادَ فِي سَنَدِهِ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ ‏.‏

وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الْإِمَامِ الصَّرْصَرِيِّ فِي ذَلِكَ‏:‏ مَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ إنْ ذُكِرَ اسْمُهُ فَهُوَ الْبَخِيلُ وَزِدْهُ وَصْفَ جَبَانِ وَإِذَا الْفَتَى فِي الْعُمْرِ صَلَّى مَرَّةً فِي سَائِرِ الْأَقْطَارِ وَالْبُلْدَانِ صَلَّى عَلَيْهِ اللَّهُ عَشْرًا فَلْيَزِدْ عَبْدٌ وَلَا يَجْنَحْ إلَى نُقْصَانِ وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ ثُمَّ تَفَرَّقُوا عَنْ غَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَصَلَاةٍ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَّا قَامُوا عَنْ أَنْتَنِ مِنْ جِيفَةٍ ‏"‏ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ إلَّا أَنَّهُ قَالَ ‏"‏ إلَّا قَامُوا عَنْ أَنْتَنِ جِيفَةٍ ‏"‏ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَقْدِسِيُّ‏:‏ هَذَا عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ ‏.‏

وَفَضْلُ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَوَاطِنُهَا وَمُتَعَلِّقَاتُ ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمُخْتَصَرِ ‏.‏

وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ لِيَكُونَ كَالْأُنْمُوذَجِ وَمَا لَا يُدْرَكُ كُلُّهُ لَا يُتْرَكُ بَعْضُهُ ‏.‏

مَعْنَى الْآلِ ‏(‏الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ‏)‏ ‏(‏وَآلِهِ‏)‏ أَيْ أَتْبَاعِهِ عَلَى دِينِهِ ‏.‏

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي جَلَاءِ الْأَفْهَامِ‏:‏ قَالَتْ طَائِفَةٌ‏:‏ يُقَالُ آلُ الرَّجُلِ لَهُ نَفْسِهِ، وَآلُهُ لِمَنْ تَبِعَهُ، وَآلُهُ لِأَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ ‏.‏

فَمِنْ الْأَوَّلِ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا جَاءَهُ أَبُو أَوْفَى بِصَدَقَتِهِ ‏"‏ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى ‏"‏ وقوله تعالى ‏{‏سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ‏}‏ وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ ‏"‏ فَآلُ إبْرَاهِيمَ هُوَ ‏(‏إبْرَاهِيمُ‏)‏ لِأَنَّ الصَّلَاةَ الْمَطْلُوبَةَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هِيَ الصَّلَاةُ عَلَى إبْرَاهِيمَ نَفْسِهِ، وَآلُهُ تَبَعٌ لَهُ فِيهَا ‏.‏

وَنَازَعَهُمْ فِي ذَلِكَ آخَرُونَ وَقَالُوا لَا يَكُونُ الْآلُ إلَّا الْأَتْبَاعُ وَالْأَقَارِبُ، وَقَالُوا وَمَا ذَكَرُوا مِنْ الْأَدِلَّةِ الْمُرَادُ بِهَا الْأَقَارِبُ ‏.‏

ثُمَّ اخْتَارَ مِنْ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ الْآلَ إنْ أُفْرِدَ دَخَلَ فِيهِ الْمُضَافُ إلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى ‏{‏أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ‏}‏ وَأَمَّا إنْ ذُكِرَ الرَّجُلُ ثُمَّ ذُكِرَ آلُهُ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِمْ ‏.‏

وَاخْتُلِفَ فِي آلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ، فَقِيلَ‏:‏ هُمْ الَّذِينَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الصَّدَقَةُ، وَفِيهِمْ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ‏:‏ أَحَدُهَا أَنَّهُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمطلب، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَالثَّانِي أَنَّهُمْ بَنُو هَاشِمٍ خَاصَّةً، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَهِيَ الْمَذْهَبُ الَّذِي لَا يُفْتَى بِغَيْرِهِ كَمَا فِي الْإِقْنَاعِ وَالْمُنْتَهَى وَغَيْرِهِمَا ‏.‏

الثَّالِثُ أَنَّهُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَمَنْ فَوْقَهُمْ إلَى غَالِبٍ، فَيَدْخُلُ فِيهِمْ بَنُو المطلب وَبَنُو أُمَيَّةَ وَبَنُو نَوْفَلٍ وَمَنْ فَوْقَهُمْ إلَى بَنِي غَالِبٍ، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَشْهَبَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ ‏.‏

الْقَوْلُ الثَّانِي‏:‏ أَنَّ آلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هُمْ ذُرِّيَّتُهُ وَأَزْوَاجُهُ خَاصَّةً، حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ ‏.‏

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ‏:‏ أَنَّ آلَهُ صلى الله عليه وسلم أَتْبَاعَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ ‏.‏

وَأَقْدَمُ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ هَذَا الْقَوْلُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما ‏.‏

ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَاخْتَارَهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ ‏.‏

قُلْت‏:‏ وَغَالِبُ عُلَمَائِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ فِي مَقَامِ الدُّعَاءِ خَاصَّةً ‏.‏

وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ‏:‏ أَنَّ آلَهُ صلى الله عليه وسلم هُمْ الْأَتْقِيَاءُ مِنْ أُمَّتِهِ، حَكَاهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالرَّاغِبُ وَجَمَاعَةٌ ‏.‏

اشْتِقَاقُ كَلِمَةِ آلِ وَهَلْ أَصْلُهُ أَهْلُ ثُمَّ قُلِبَتْ الْهَاءُ هَمْزَةً فَقِيلَ أأل ثُمَّ سُهِّلَتْ عَلَى قِيَاسِ أَمْثَالِهَا فَقِيلَ آلُ بِدَلِيلِ تَصْغِيرِهِ عَلَى أُهَيْلٍ‏؟‏ أَوْ أَوْلٌ مِنْ آلَ يَئُولُ إذَا رَجَعَ، فَآلُ الرَّجُلِ هُمْ الَّذِينَ يَرْجِعُونَ إلَيْهِ وَيُضَافُونَ، وَيَئُولُهُمْ أَيْ يَسُوسُهُمْ فَيَكُونُ مَآلُهُمْ إلَيْهِ ‏.‏

ظَاهِرُ كَلَامِهِ فِي جَلَاءِ الْأَفْهَامِ تَرْجِيحُ الثَّانِي ‏.‏

وَفِي الْقَامُوسِ‏:‏ آلُهُ أَهْلُ الرَّجُلِ وَأَتْبَاعُهُ وَأَوْلِيَاؤُهُ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِيمَا فِيهِ شَرَفٌ غَالِبًا، فَلَا يُقَالُ آلُ الْإِسْكَافِ كَمَا يُقَالُ أَهْلُهُ ‏.‏

قَالَ وَأَصْلُهُ أَهْلُ أُبْدِلَتْ الْهَاءُ هَمْزَةً فَصَارَتْ أأل تَوَالَتْ هَمْزَتَانِ فَأُبْدِلَتْ الثَّانِيَةُ أَلِفًا تَصْغِيرُهُ أويل وَأُهَيْلٍ ‏.‏

انْتَهَى ‏.‏

قَالَ فِي جَلَاءِ الْأَفْهَامِ‏:‏ قَالَ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الثَّانِي‏:‏ وَالْتَزَمَتْ الْعَرَبُ إضَافَتَهُ فَلَا يُسْتَعْمَلُ مُفْرَدًا إلَّا نَادِرًا كَقَوْلِ الشَّاعِرِ‏:‏ نَحْنُ آلُ اللَّهِ فِي بَلْدَتِنَا لَمْ نَزَلْ آلًا عَلَى عَهْدِ إرَمْ وَالْتَزَمُوا أَيْضًا إضَافَتَهُ إلَى الظَّاهِرِ فَلَا يُضَافُ إلَى مُضْمَرٍ إلَّا قَلِيلًا ‏.‏

وَعِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ إضَافَتُهُ إلَى الْمُضْمَرِ لَحْنٌ ‏.‏

قَالَ ابْنُ مَالِكٍ‏:‏ وَالصَّحِيحُ لَيْسَ بِلَحْنٍ بَلْ هُوَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ لَكِنَّهُ قَلِيلٌ ‏.‏

قَالَ تِلْمِيذُهُ فِي كِتَابِهِ الْمُطْلِعِ‏:‏ وَالصَّوَابُ جَوَازُ إضَافَتِهِ إلَى الْمُضْمَرِ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ‏:‏ أَنَا الْفَارِسُ الْحَامِي حَقِيقَةَ وَالِدِي وَآلِي فَمَا تَحْمِي حَقِيقَةَ آلِكَا وَقَالَ عَبْدُ المطلب فِي الْفِيلِ وَأَصْحَابِهِ‏:‏ وَانْصُرْ عَلَى آلِ الصَّلِي بِ وَعَابِدِيهِ الْيَوْمَ آلَك فَأَضَافَهُ إلَى الْيَاءِ وَالْكَافِ ‏.‏

وَزَعَمَ بَعْضُ النُّحَاةِ أَنَّهُ لَا يُضَافُ إلَّا إلَى عَلَمِ مَنْ يَعْقِلُ ‏.‏

وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ خِلَافُهُ ‏.‏

قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏ نَجَوْت وَلَمْ يَمْنُنْ عَلَيْك طَلَاقَهُ سِوَى زَيْدِ التَّقْرِيبِ مِنْ آلِ أَعْوَجَا وَأَعْوَجُ عَلَمُ فَرَسٍ ‏.‏

وَإِنَّمَا أَتْبَعَ النَّاظِمُ الْآلَ لِرَسُولِ الْمَلِكِ الْمُتَعَالِ لِمَا تَضَافَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ وَصَحَّتْ الْآثَارُ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّي عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ ‏"‏ إلَى مَا لَا نُحْصِيهِ عَدًّا إلَّا بِالْإِطَالَةِ ‏(‏وَأَصْحَابِهِ‏)‏ جَمْعِ صَاحِبٍ قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ‏:‏ وَلَمْ يُجْمَعْ فَاعِلٌ عَلَى فَعَالَةٍ إلَّا هَذَا ‏.‏

قَالَ فِي الْقَامُوسِ‏:‏ صَحِبَهُ كسمعه صَحَابَةً وَيُكْسَرُ، وَصُحْبَةً‏:‏ عَاشَرَهُ وَهُمْ أَصْحَابٌ وَأَصَاحِيبٌ وَصُحْبَانٌ وَصِحَابٌ وَصَحَابَةٌ وَصِحَابَةٌ وَصَحْبٌ وَاسْتَصْحَبَهُ دَعَاهُ إلَى الصُّحْبَةِ وَلَازَمَهُ ‏.‏

وَالصَّحَابِيُّ مَنْ اجْتَمَعَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَوْ لَحْظَةً وَإِنْ لَمْ يَرَهُ وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ مُؤْمِنًا وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ وَلَوْ تَخَلَّلَهُ رِدَّةٌ ‏.‏

 مطلب الصُّحْبَةِ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ

وَقَسَّمَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ الصُّحْبَةَ إلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ‏:‏ الْأُولَى‏:‏ مَنْ كَثُرَتْ مُخَالَطَتُهُ وَمُعَاشَرَتُهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِحَيْثُ لَا يُعْرَفُ صَاحِبُهَا إلَّا بِهَا، فَيُقَالُ هَذَا صَاحِبُ فُلَانٍ وَخَادِمُ فُلَانٍ لِمَنْ تَكَرَّرَتْ خِدْمَتُهُ لَا لِمَنْ خَدَمَهُ مَرَّةً أَوْ سَاعَةً أَوْ يَوْمًا ‏.‏

الثَّانِيَةُ‏:‏ مَنْ اجْتَمَعَ بِهِ صلى الله عليه وسلم مُؤْمِنًا وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً، لِأَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ صَحِبَهُ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَنْتَهِ إلَى الِاشْتِهَارِ بِهِ حَتَّى يَصِيرَ يُعْرَفُ ‏.‏

الثَّانِيَةُ‏:‏ مَنْ رَآهُ صلى الله عليه وسلم رُؤْيَةً وَلَمْ يُجَالِسْهُ وَلَمْ يُمَاشِهِ فَهَذَا أَلْحَقُوهُ بِالصُّحْبَةِ إلْحَاقًا وَإِنْ كَانَتْ حَقِيقَةُ الصُّحْبَةِ لَمْ تُوجَدْ فِي حَقِّهِ، وَلَكِنْ صُحْبَةٌ إلْحَاقِيَّةٌ حُكْمِيَّةٌ لِشَرَفِ قَدْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِاسْتِوَاءِ الْكُلِّ فِي انْطِبَاعِ طَلْعَةِ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم فِيهِمْ بِرُؤْيَتِهِ إيَّاهُمْ أَوْ رُؤْيَتِهِمْ إيَّاهُ مُؤْمِنِينَ بِمَا جَاءَ بِهِ، وَإِنْ تَفَاوَتَتْ رُتَبُهُمْ رضوان الله عليهم ‏(‏مِنْ كُلِّ‏)‏ صَحَابِيٍّ ‏(‏هَادٍ‏)‏ لِغَيْرِهِ أَيْ مُرْشِدٍ وَدَالٍ، وَمِنْ كُلِّ ‏(‏مُهْتَدِي‏)‏ فِي نَفْسِهِ ‏.‏

يُقَالُ هَدَاهُ هُدًى وَهَدْيًا وَهِدَايَةً وَهِدْيَةً بِكَسْرِهِمَا أَرْشَدَهُ فَهَدَى وَاهْتَدَى ‏.‏

وَهَدَاهُ اللَّهُ الطَّرِيقَ دَلَّهُ ‏.‏

وَالْهُدَى بِضَمِّ الْهَاءِ وَفَتْحِ الدَّالِ الرَّشَادُ كَمَا فِي الْقَامُوسِ ‏.‏

 مطلب الْهِدَايَةُ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِهِ بَدَائِعُ الْفَوَائِدِ‏:‏ الْهِدَايَةُ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ‏:‏ أَحَدُهَا‏:‏ الْهِدَايَةُ الْعَامَّةُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَ الْخَلْقِ الْمَذْكُورَةُ فِي قوله تعالى ‏{‏الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى‏}‏ أَيْ أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ صُورَتَهُ الَّتِي لَا يَشْتَبِهُ فِيهَا بِغَيْرِهِ، وَأَعْطَى كُلَّ عُضْوٍ شَكْلَهُ وَهَيْئَتَهُ، وَأَعْطَى كُلَّ مَوْجُودٌ خَلْقَهُ الْمُخْتَصَّ بِهِ ثُمَّ هُدَاهُ لِمَا خَلَقَهُ مِنْ الْأَعْمَالِ ‏.‏

قَالَ وَهَذِهِ الْهِدَايَةُ تَعُمُّ الْحَيَوَانَ الْمُتَحَرِّكَ بِإِرَادَتِهِ إلَى جَلْبِ مَا يَنْفَعُهُ وَدَفْعِ مَا يَضُرُّهُ ‏.‏

قَالَ وَلِلْجَمَادِ أَيْضًا هِدَايَةٌ تَلِيقُ بِهِ، كَمَا أَنَّ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ الْحَيَوَانِ هِدَايَةً تَلِيقُ بِهِ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَنْوَاعُهَا وَصُوَرُهَا، وَكَذَلِكَ لِكُلِّ عُضْوٍ هِدَايَةٌ تَلِيقُ بِهِ، فَهُدَى الرِّجْلَيْنِ لِلْمَشْيِ، وَاللِّسَانِ لِلْكَلَامِ، وَالْعَيْنِ لِكَشْفِ الْمَرْئِيَّاتِ، وَهَلُمَّ جَرًّا ‏.‏

وَكَذَلِكَ هَدَى الزَّوْجَيْنِ مِنْ كُلِّ حَيَوَانٍ إلَى الِازْدِوَاجِ وَالتَّنَاسُلِ وَتَرْبِيَةِ الْوَلَدِ، وَالْوَلَدِ إلَى الْتِقَامِ الثَّدْيِ عِنْدَ وَضْعِهِ، وَمَرَاتِبُ هِدَايَتِهِ سُبْحَانَهُ لَا يُحْصِيهَا إلَّا هُوَ ‏.‏

الثَّانِي‏:‏ هِدَايَةُ الْبَيَانِ وَالدَّلَالَةِ وَالتَّعْرِيفِ لِنَجْدَيْ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَطَرِيقَيْ النَّجَاةِ وَالْهَلَاكِ ‏.‏

وَهَذِهِ الْهِدَايَةُ لَا تَسْتَلْزِمُ الْهُدَى التَّامَّ فَإِنَّهَا سَبَبٌ وَشَرْطٌ لَا مُوجِبٌ، وَلِهَذَا يَنْتَفِي الْهُدَى مَعَهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى ‏{‏وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى‏}‏ أَيْ بَيَّنَّا لَهُمْ وَأَرْشَدْنَاهُمْ وَدَلَلْنَاهُمْ فَلَمْ يَهْتَدُوا ‏.‏

وَمِنْهَا قوله تعالى ‏{‏وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}

الثَّالِثُ‏:‏ هِدَايَةُ التَّوْفِيقِ وَالْإِلْهَامِ، وَهِيَ الْهِدَايَةُ الْمُسْتَلْزِمَةُ لِلِاهْتِدَاءِ فَلَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قوله تعالى ‏{‏يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء‏}‏ وَفِي قوله تعالى ‏{‏إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ‏}‏ وَفِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ مَنْ يَهْدِي اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ ‏"‏ وَفِي قوله تعالى ‏{‏إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء‏}‏ فَنَفَى عَنْهُ هَذِهِ الْهِدَايَةَ وَأَثْبَتَ لَهُ هِدَايَةَ الدَّعْوَةِ وَالْبَيَانِ فِي قَوْلِهِ ‏{‏وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏.‏

الرَّابِعُ‏:‏ غَايَةُ هَذِهِ الْهِدَايَةِ وَهِيَ الْهِدَايَةُ إلَى الْجَنَّةِ أَوْ النَّارِ إذَا سِيقَ أَهْلُهُمَا إلَيْهِمَا ‏.‏

1‏.‏ قَالَ تَعَالَى ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيم‏}‏ وَقَالَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِيهَا ‏{‏الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ‏}‏ وَقَالَ فِي حَقِّ أَهْلِ النَّارِ ‏{‏احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ‏}‏ انْتَهَى ‏.‏

كَلَامُ الْبَيْضَاوِيِّ فِي الْهِدَايَةِ وَفِي الْبَيْضَاوِيِّ‏:‏ الْهِدَايَةُ دَلَالَةٌ بِلُطْفٍ، وَلِذَلِكَ تُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْرِ ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏{‏فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيم‏}‏ عَلَى التَّهَكُّمِ ‏.‏

ثُمَّ قَالَ‏:‏ وَهِدَايَةُ اللَّهِ تَتَنَوَّعُ أَنْوَاعًا لَا يُحْصِيهَا عَدٌّ، لَكِنَّهَا تَنْحَصِرُ فِي أَجْنَاسٍ مُتَرَتِّبَةٍ‏:‏ الْأَوَّلُ إفَاضَةُ الْقُوَى الَّتِي بِهَا يَتَمَكَّنُ الْمُؤْمِنُ الِاهْتِدَاءَ إلَى مَصَالِحِهِ كَالْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْحَوَاسِّ الْبَاطِنَةِ وَالْمَشَاعِرِ الظَّاهِرَةِ ‏.‏

وَالثَّانِي نَصْبُ الدَّلَائِلِ الْفَارِقَةِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ حَيْثُ قَالَ ‏{‏وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ‏}‏ وَقَالَ ‏{‏فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى‏}‏ وَالثَّالِثُ الْهِدَايَةُ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ وَإِيَّاهَا عَنَى بِقَوْلِهِ ‏{‏وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا‏}‏ وَقَوْلِهِ ‏{‏إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ‏}‏ وَالرَّابِعُ أَنْ يَكْشِفَ عَلَى قُلُوبِهِمْ السَّرَائِرَ وَيُرِيَهُمْ الْأَشْيَاءَ كَمَا هِيَ بِالْوَحْيِ أَوْ الْإِلْهَامِ وَالْمَنَامَاتِ الصَّادِقَةِ، وَهَذَا قِسْمٌ يَخْتَصُّ بِنَيْلِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَالْأَوْلِيَاءُ، وَإِيَّاهُ عَنَى بِقَوْلِهِ ‏{‏أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ‏}‏ وَقَوْلِهِ ‏{‏وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا‏}‏ انْتَهَى ‏.‏

فَالصَّحَابَةُ رضي الله عنهم هُدَاةٌ مَهْدِيُّونَ ‏.‏

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه مَرْفُوعًا ‏"‏ النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ، فَإِذَا ذَهَبَتْ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ، وَأَنَا أَمَنَةٌ لِأَصْحَابِي فَإِذَا ذَهَبْت أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي فَإِذَا ذَهَبَتْ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ ‏"‏ وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ رضي الله عنهم مَرْفُوعًا ‏"‏ أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ ‏"‏ رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ وَغَيْرُهُ وَأَسَانِيدُهُ ضَعِيفَةٌ ‏.‏

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ ‏"‏ وَالنَّصِيفُ أَحَدُ اللُّغَاتِ الْأَرْبَعِ فِي النِّصْفِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ نِصْفٌ بِكَسْرِ النُّونِ وَفَتْحِهَا وَضَمِّهَا وَنَصِيفٌ بِفَتْحِ النُّونِ وَزِيَادَةِ الْيَاءِ وَالْمَعْنَى لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ ثَوَابُهُ فِي ذَلِكَ نَفَقَةَ أَصْحَابِي مُدًّا وَلَا نِصْفَ مَدٍّ لِأَنَّ إنْفَاقَهُمْ كَانَ فِي نُصْرَتِهِ صلى الله عليه وسلم وَحِمَايَتِهِ وَذَلِكَ مَعْدُومٌ بَعْدَهُ، فَتَضَمَّنَ ذَلِكَ أَفْضَلِيَّتَهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ مُطْلَقًا، وَأَنَّ فَضِيلَةَ نَفَقَتِهِمْ عَلَى نَفَقَةِ غَيْرِهِمْ بِاعْتِبَارِ فَضِيلَةِ ذَوَاتِهِمْ، وَفَضْلُ الصَّحَابَةِ مَشْهُورٌ، وَسَعْيُهُمْ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَذْلُهُمْ أَنْفُسَهُمْ النَّفِيسَةَ مَأْثُورٌ، وَصِدْقُهُمْ وَمُوَاسَاتُهُمْ وَحُسْنُ صُحْبَتِهِمْ لَهُ صلى الله عليه وسلم مَشْكُورٌ